الخميس , 21 نوفمبر 2024
بقلم /عبده يحيى الدباني
نتوقف هنا امام شخصية أخرى من شخصيات حالمين وأعلامها وشعرائها الذين ارخنّا لهم في هذا الكتاب وهو الشهيد الشاعر سيف علي سيف الدباني .
…من قرية القرب في جبل حالمين وتجمعني به قريةً واحدة وقبيلة واحدة وعشيرة واحده فنحن اولاد عم وننتمي إلى جيلٍ واحد ربما اكبره بسنة أو بأقل من سنة فهو من مواليد 1967 م تقريبا .
عشنا معًا ونشأنا ودرسنا في مدرسة واحدة في المرحلة الابتدائية لكن سيفًا كان فريداً في طبعهِ وكانت سيرته لا تخلو من شقاوةٍ الطفولة والشباب.
لم يكمل دراسته فحين اتجهت أنا إلى دراسة الثانوية العامة غادرنا معا القرية فذهب هو إلى الجيش وانا ذهبت إلى ثانوية النجمة الحمراء وهو التحق بالجيش مبكرًا، التحق في معسكر طارق لتدريب السائقين والمهندسين في القوات المسلحلة .
كلنا كنا نرعى الأغنام والضان وكان إلى جانب ذلك يرعى ايضاً الثيران،
ثيران أسرته .
كنا نجرب الشبابة أي الناي نصنعه من شجرة العضرب على شكل انبوبة،
ونحدث فيها فتحات من أجل الصوت والتحكم به وتنويعه ولكنه هو استمر ( يوطوط) كل حين وظل يجرب الصوت لا يكل ولا يمل وذهب إلى الذين يجيدون الشبابة
في القرية من الشباب والكهول وهم قليل يسألهم ويتعلم منهم تحت إلحاح الموهبة ، وهكذا حتى أتقن الفن واجاده وابدع فيه ، وهكذا ظل يردد بفيه ألحان الشبابة الشجية إلى أن فارق الحياة عام 2014م
وما اكثر ما تحلق حوله الناس وخاصة الأطفال يسمعون تلك الألحان الساحرة التي تلين قلوب الصخور وهي مستمدة اصلا من تراث القرية وحالمين عامة وهي موجودة في المناطق المجاورة وفي مناطق جنوبية كثيرة مع بعض الفرق هنا وهناك .
تنقل في القوات المسلحة في أكثر من لواء وسلاح ومحور، كان يُحدث بعض المخالفات العسكرية بحكم طبعه الذي يضيق بالنظام العسكرى
وبحكم صراحته وعدم مداهنته ، مع انه طيب المعشر وطريف ومرح .
انتقل من معسكر طارق إلى الفرقة الموسيقية النحاسية للقوات المسلحة في الجنوب، لأنه كان يُجيد العزف على الناي كما ذكرنا.
وفي تلك الفرقة لم يطل به المقام ولم يطب، فجرى تحويله إلى لواء آخر وهكذا طوف في الوية القوات المسلحلة الجنوبية.
وطبعا لم يترق في الجيش ولم يذهب في دورات إلى خارج البلاد رغم خدمته الطويلة بحكم عدم إلتزامه وعدم اكتراثه بهذه الأمور وبحكم مستواه الدراسي المتواضع وتنقله من مكان إلى آخر ، ولكنه كان يُريد أن يبقى هكذا من غير التزامات ومسؤوليات رسمية .
وأذكر هنا بعض طُرفه في القوات المسلحه رحمه الله طرف فيها مغامرة وجرأة حسبت له مثلما حسبت عليه .
كانت لديه روح المغامرة وكان في كل مرة يخرج من هذه المغامرات بسلام ليدخل في مغامرة جديدة .
فغي معسكر طارق في التمانينيات عاقبوه بعقاب يسمى (دبل زام) يعني زاما مضاعفا يوماً ثم يوماً وهكذا ليلاً ونهاراً ، فَتُعِب وأُرهق وأراد أن ينام ، ولكنه إذا نام فوق الزام ستكون قضية أكبر وسوف يسحبون منه السلاح وسيتحاكم وهو موقف لا يرضاه لشخصه الريفي الغيور ، وعندما طلب أن يبدلوه بجندي آخر رفضوا فهو في موقف عقاب. فلما اشتد به النوم وكاد يصرعه ما كان منه إلا ان تحسس بندقيته ليستمد منها الصحو ومن ثم أطلق منها رصاصة او رصاصتين
نحو فندق عدن القريب من المعسكر
قصد بها الضوء الأحمر في أعلى الفندق ، ذلك الضوء الأحمر الذي هو عادة ما يكون إشارة للطيران في الأماكن العالية، فإذا بالمعسكر يصحى
لصوت الرصاص ويهرع نحو مصدرها
وليس مثل اليوم اضحى إطلاق الرصاص مسألة اعتيادية ننام عليها ونصحى ، فجأوا إليه وقبضوا عليه وسحبوا منه السلاح وزجوا به في السجن وكانت هذه قضية كبيرة بالنسبة للنظام العسكرى، أما هو فقد نام ملء جفونه عن شواردها ، فعندما فتح له باب السجن ارتمى نائما والصباح رباح فلا فزع ولا جزع ولا ارق ولا قلق ؛
فأنى شئت يا طرقي فكوني
اذاة او نجاة او هلاكا
فتجاوز تلك القضية بعد أن حوكم وجرى تحويله إلى تشكيل عسكري آخر.
انتقل بعد ذلك إلى الفرقة النحاسية الموسيقية للقوات المسلحة الجنوبية، فأعجبهم نايه، وتضم هذه الفرقة عددا كبيرا من الشباب العازفين
وكنا نجد صاحبنا وهو يرتدي بزتهم
شابا صغيرا ووسيما .
وفي يوم مهيب من ايام الاستعراضات العسكرية طلب منه القائد أن يقرع الطبل بدلاً من الناي حسب حاجة ذلك الموقف فرفض بشدة هذا الأمر، وقال ما انا طبال
أنا ( بن علي) قبيلي دباني لا انا ولا ابي ولا جدي طبلنا ، لقد نظر صاحبنا للأمر من زاوية ثقافية قبلية وليس من زاوية الواجب العسكري مفضلا الأولى على الثانية ، فالذين يطبلون في الأعراس في الوسط القبلي هم اقل درجة في نظر الثقافة القبلية وصاحبنا هو ابن هذه الثقافة الضاربة اطنابها في الأعماق وليس تغييرها بالأمر الهين .
وحين كرر القائد الأمر العسكري
بشدة لصاحبنا ان يقرع الطبل
شاهد الناس هذا الجندي الموسيقي وهو يركل الطبل ركلة شديدة فمضى الطبل يتدحرج في الميدان لوحده
كأنه يقدم استعراضا على طريقته
وقد كان موقفا محرجا حقا على ما فيه من طرافة في يوم رسمي مشهود .
ومرة اخرى يزج به في السجن الذي يعرفه وبعد ايام كان في معسكر آخر لا علاقة له بالموسيقى ولا بالطبول
مكان في الصحراء عقابا على فعله .
مرت الأيام والشهور ولم يطب له المقام في صحراء المهرة ففكر في الهروب إلى سلطنة عمان وقد استطاع ان يقنع معه بعض الجنود بطريقته العجيبة في الإقناع فكان قائدهم في عبور الحدود إلى السلطنة
وقد استطاعوا فعلا ان يصلوا إلى مسقط ، وفي صباح اليوم الثاني دخلوا أحد مطاعم المدينة خائفين يترقبون فصاح قائدهم يطلب (قراعا ) فكانت هذه الكلمة غريبة في ذلك الوسط العماني وهكذا اوشت بهم اللغة وهي لا شك هوية او قل اللهجة ، فتحرك الأمن نحوهم بعد ان استلم بلاغا من داخل المطعم فلم يتقرعوا الا داخل التوقيف، فالعمانيون يسمون هذه الوجبة فطورا وهي مفردة عربية فصيحة .
عانوا ما عانوا في ظل الاعتقال
وجرى التحقيق معهم ولكن سيفا
استطاع أن يحرض جماعته وآخرين غيرهم في السجن أن يضربوا عن الطعام حتى تعيدهم السلطات العمانية من مسقط إلى مسقط رؤوسهم وقد استطاعوا انتزاع ذلك فارتفعت بهم طائرة عمانية تعبر الأجواء لتحط في مطار عدن الحبيبة .
فتجاوز هذه المشكلة بعد العودة وعاد إلى الجيش بعد أن سجن مدة في معسكر فتح العسكري ، وعندما هزه الشوق إلى أهله في القرية استطاع أن يقنع مدير السجن أن يسمح له بيومين خارج السجن ، وأنه سوف يعود في الوقت المحدد
اي بعد يومي الخميس والجمعة.
وكان الأمر صعبا جداً، ولكن لا ادري كيف استطاع أن يقنع مسؤول السجن بهذا الأمر .
وفعلا ذهب وزار القرية في يومين وعاد في الوقت المحدد مع انه كان بإمكانه أن يهرب وألا يعود ، ولكن لم يشأ أن يورط مدير السجن أو حارسه الذي ساعده في هذا الموقف، لقد بادله وفاء بوفاء ، مع أن المسألة فيها خطأ من حيث النظام والقانون .
وعندما كان جنديًا في الضالع حمل يومًا خطابًا إلى قائد اللواء وهو شمالي وهذا بعد اجتياح ١٩٩٤م وقد كان له موقف خلال هذه الحرب فقد قاتل في دوفس أبين، وغيرها، وكان له موقف مشرف وكان ضد الاحتلال الشمالي منذُ دخوله ..حمل إلى هذا القائد رسالة من قائد جنوبي آخر بأن يعفيه من الغياب الذي مضى فما كان من هذا القائد الشمالي إلا ان أخذ الخطاب ومزقه في وجه صاحبنا،
فتقدم العسكري سيف وصفع ذلك القائد صفعة في وجهه أفقدته توازنه وهيبته، فهرعت الحراسة وأرادوا أن يضربوه فكان يهددهم أن هم مسوه بسوء فإن قبائل حالمين ستنتقم له منهم وانهم سيدفعون الثمن غاليا ،
فتجنبوا ان يضربوه وزجوا به في السجن وبعدها جرى تحويله إلى لواء عسكري آخر ، وخرج من هذه المشكلة بسلام.
وهكذا ظل شهيدنا مرة يتعسكر ومرة يعود لقريته فيبقى فيها .
وفي عام ٢٠١٤م كانت هناك حاجة إلى أن يذهب عدد من الجنوبيين من الضالع وردفان ويافع وابين وعدن ولحج وغيرها ليلتحقوا بقبيلة بني الحارث في شبوة في عسيلان لقتالٍ قبائل شمالية تريد أن تحتل أراضي بني الحارث وهذه قضية سياسية في الأصل تمثل صراعا بين الشمال والجنوب استباقا لانتصار الجنوب وقيام دولته المستقلة ، يريدون أن يحتلوا اراضي بني الحارث في شبوة ففيها حقول نفط لم يتم بعد استكشافها واستثمارها، فعرف الجنوبيون ذلك وساندوا إخوانهم بني الحارث، وكان منهم شهيدنا الذي ذهب إلى هناك وقاتل ضمن رفاقه وأصيب بتلك المعركة إصابة بالغة ونقل إلى صنعاء رغم رفضه لذلك من اجل تسفيره للخارج وهناك لقي ربه رحمه الله تعالي في مستشفى الشرطة في رمضان من ذلك العام وقد استشهد معه اثنان من ابناء حالمين هما الأخوان اسد عاطف البشيري وأخوه والشاعر المعروف نبيل الخالدي اليافعي رحمهم الله جميعا .
كنت أقول الشعر وكان هو يقول الشعر ولعلني قد سبقته إلى ذلك لكنه أستمر إلى نهاية المطاف يقول الشعر الشعبي وانا انتقلت إلى مجال كتابة المقالة والبحوث والدراسات الأدبية وقليل من الشعر الفصيح.
كان شعره تلقائياً بسيطا طريفا مطبوعا لا تكلف فيه ولا يخلو من فلسفة حياتية تعكس طبيعة الشاعر ونظرته للحياة ، وقد نعرض عليكم نموذجاً منه يتغنى به الناس في حالمين ويتذكرونه لطرافته وفي اسلوبه البسيط ولهجتة الموغلة في المحلية.
وعموما فإن شعره يحتاج الى جمع وإلى دراسة لأنه يمثل البساطة والتلقائية ومعاناة الإنسان الفقير الذي لا يتورع في صرف واستهلاك ما يقع في يده من مال بكل سرعة .
لقد عاش فقيراً ومات كذلك، ولم يساعده الحظ في كثير من أطوار حياته، ولم يحاول هو ذلك كان يعيش ليومه وللساعة التي هو فيها
رحمه الله .
كان يبدع الزوامل اي الاراجيز التي تقال في الأعراس وقد قال مرة زاملا مصورا فلسفته في الحياه وقد كان يعشق القات إلى حد الإدمان . قال:
خزن وكيف خل بقعا تختسف
اوبه تحصف خل ما حولك نظيف
حاول تصرف او تدبرها سلف
وان حد تخبر قل بنغرفها غريف
هذا الزامل يبدو بسيطا ساذجا لكنه عميق يعبر عن فلسفة الفقراء
المعدمين الذين لا يحتفظون بشيء
يقع في ايديهم الذين شعارهم:
ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها
هذه الفلسفة يحياها عدد من الناس قد نتفق معهم وقد نختلف لكنها لا تخلو من طرافة ولا من صواب فكل شيء نسبي .
ولفقيدنا الشهيد أشعار كثيرة ولنورد هنا نموذجا منها مما علق بالذاكرة من شعره .
نوفمبر 21, 2024
نوفمبر 19, 2024
نوفمبر 17, 2024
نوفمبر 11, 2024