الوحدةُ تنهشني… لا تنهش جسدي، بل تنهش روحي، تُقشّر قلبي طبقةً طبقة، حتى يغدو هشيماً تتقاذفه رياح الألم. الوحدة ليست غياب الآخرين فقط، بل غياب المعنى… غياب الدفء، غياب السؤال الصادق، والاهتمام الذي لا يُستجدى. إنها شعورٌ قاتم، كأنك ضيفٌ ثقيلٌ في قلبك، تعيش بين نبضاتك ولا تلمس الحياة فيها. كلما أغلقتُ عيني، تسللت إليّ مخالبها… لا لتواسيني، بل لتُكمل تمزيقي. تُحاصرني كوحشٍ صامت، لا يصرخ، لا يهدر، بل ينهشني بهدوءٍ قاتل… تُقطّعني من الداخل، وتذرني شظايا إنسان… أشلاء شعور، وبقايا ابتسامة قديمة. كلما أغمضتُ عينيّ، تنهضُ من داخلي وحوشُ الوحدة، تُمزّقني بأظافر الألم، تنهشُ ذاكرتي، تنبشُ في صدري حنيناً لا أعرف إلى ماذا… ربما أشتاق إلى حضنٍ لم أعرفه، إلى دفءٍ لم أشعر به، إلى صوتٍ لم يسمعني، إلى إنسانٍ لم يأتِ. أجلسُ بين الجدران الأربعة، لا أجد فيها غير الصمت، صمتٌ له ملامحُ حادة، كأنه يُحدّق بي… صمتٌ ثقيلٌ يُطبق على صدري كغُبارِ المقابر، وأذناي تلتقطان صدى نفسي، فتغدو أنفاسي ضوضاء لا تُطاق. كل شيءٍ من حولي ساكن… حتى قلبي، لم يعد ينبض بالحياة، بل ينبض من فرط الألم. لا صوت سوى أنفاسي المثقلة، ولا رفيق إلا ظلّي المُتعب، أُصغي إلى صمتٍ يصفع أذنيّ كصدى بعيد… كأن الزمان تجمّد، وكأن العالم قد طوى صفحتي منذ زمن، ونسيني في زاوية منسية، أتنفس فيها الغياب. الوحدة ليست لحظة، بل سكنٌ داخلي، بيوتها في قلبي، وجدرانها من حزني، ونوافذها تُطل على خيباتي… أعيش فيها زمني، أرتّب فيها دموعي، وأكنس من أرضها بقايا ذكرياتي. “اقول لا بأس، سأكون بخير… كعادتي دائماً.” ولكنك لست بخير… أنت تتآكل، تتآكل من الداخل كشمعةٍ تُنير للآخرين وهي تذوب في صمت، أنت تُخفي صرخةً لا تجد لها أُذناً، أنت تنهار… في هدوء، حتى لا تُقلق أحداً. أتعلم؟ أشدُّ أنواع الوحدة… تلك التي لا ملامح لها، لا دموع تُعبّر عنها، ولا كلمات تصفها، وإنما سكونٌ غريب، ينهشك كل ليلة، حتى تغدو الصباحات باردة، والأيام متشابهة، والضحكات مجرّد قناع. لكنني أكتب… وأكتب… وأكتب… لأن الكتابة هي النافذة الوحيدة التي تُطل بي على الحياة، هي الصوت الذي يسمعني حين يصمت الجميع، هي الدفء الوحيد في عالمٍ جليديّ. وإن سألني أحد: لماذا تكتب عن الوحدة؟ سأقول له: لأنها الوحيدة التي لم تتركني، الوحيدة التي حفظت مواعيدي، الوحيدة التي انتظرتني كل ليلة، بلا تذمّر، بلا شكوى… لأنها، رغم قسوتها، صدقَتني حين كذب الجميع