تعد الأمثال كنزا من كنوز الثقافة لدى أي امة أو شعب ، وهي عند العرب كذلك ، فضلا عن فضل العرب في الفصاحة والبلاغة والبيان ابداعا وتلقيا . وقد اهتم العرب القدامى بالأمثال وتناقلوها منذ العصر الجاهلي ؛ ولدينا اليوم أمثال عربية فصيحة أُلفت فيها الكتب جمعا ودراسات ، قديما وحديثا ، ولدينا أمثال شعبية ارتبطت بهذا الشعب أو ذاك ، أو بهذه المنطقة أو تلك ، حتى في إطار البلد الواحد .
والمثل يشبه الحكمة في إيجازه وبلاغته ، لكن المثل ارتبط بموقف معين أو قصة معينة أو حدث معين ، فيتمخض عن تلك الحكاية أو الحدث أو الموقف هذا المثل أو ذاك ، وهناك احاديث شريفة تحولت إلى امثال وكذلك ابيات شعرية صارت امثالا تضرب في مواقف مختلفة . يضرب المثل في المواقف المشابهة لذلك الموقف الذي قيل فيه ، لكن الحكمة قول بليغ موجز صائب ، يأتي به رجل حكيم لديه تجربة وثقافة في الحياة وطول ملاحظة وخبرة.
وقديما قالوا :” قطعت جهيزة قول كل خطيب “ فهذا مثل فصيح جاهلي قيل في قصة مفادها، أن رجلا من الأعراب قتل رجلا آخر من قبيلة اخرى ، فاجتمع الناس يخطبون من القبيلتين ويتحاورن فيما سيُفعل بالقاتل الذي هرب ، فجاءت امرأة اسمها جهيزة وصاحت في الناس وقالت :” إن القاتل قد قُتل” أي قد ادركوه وقتلوه ، فقال أحد الحاضرين :” قطعت جهيزة قول كل خطيب”. لقد توقف الخطباء ، فماذا سيقولون والقاتل قد قُتل ؛ فصار هذا القول مثلا يضرب إلى اليوم في مواقف مشابهة، عندما يختلف الناس في مسألة ما ، ويأتي واحد آخر من بعيد فيحسم المسألة الذي اختلف فيها الناس ، ويأتيهم بخبر أن القضية قد حُلّت أو انتهت .
لكن المثل الذي سأذكره هنا ، قاله أبي _ ولا فخر _ ولم يكن يعلم أن عبارته التي قالها سوف تتحول الى مثل ، قالها وأنا أسمعه ، ولم يكن أحد غيري عنده ، فما هو هذا المثل ، وما هي قصته التي تمخض عنها؟
لقد كان أبي يتعاطى السجائر بين الحين والآخر ولم يكن مكثرا في ذلك ، وكان أخي الكبير أيضا يدخن أكثر من أبي ، وفي مرة من المرات قرر أخي أن يترك التدخين وهذا فعل طيب لكنه كان كلما رأي والدي يدخن ، يهش للتدخين فيطلب من أبي سيجارة واحدة فقط ، على اعتبار انه ترك التدخين ، فيعطيه أبي ما طلب ؛ فأكثر أخي من هذه الحالة ، فبين الحين والآخر ظل يطلب من أبي سيجارة ، فلما اكتشف أبي في ظل غياب أخي أن أخي قد دخن من السجائر أكثر مما دخن هو ، فعلق على ذلك بصوت مسموع وكأنما يعاتب أو يحدث نفسه ، قائلا : ” هذا لم يبطّل السيجارة ، ولكن بطّل يشتري ” وبطل معناها هنا ترك اواقلع . فسمعت هذه العبارة فضحكت ، وأنا في صبي صغير ، فاعجبني هذا التعبير أو التعليق التهكمي ، فكنت أروي القصة لأنها طريفة ،، فانتشرت القصة ، وانتشرت هذه العبارة التي ارتبطت بها حتى صارت مثلا ، واضحت تضرب في مواقف مشابهة ، عندما يترك الشخص الشيء على حد زعمه ولكنه لا يزال يستخدمه أو يطلبه من هذا وذاك ولا يشتريه بنفسه . فاشتهر هذا المثل _ وخاصة في حالمين _ يستخدمونه في مواقف مشابهة وقد لاحظت بنفسي هذا الاستدعاء للمثل في بعض المواقف وكان قد انسلخ على قائله الأول منضما إلى جملة الامثال الشائعة. أجل أنه مثل قاله أبي _ رحمه الله تعالى وطيب ثراه _.