الجمعة , 22 نوفمبر 2024
القمندان نيوز / عمر الراجي كاتب مغربي
يرى عبدالله العروي أن “التاريخانية” هي مدرسة الواقعية، وقد برع المفكر المغربي في وصف أدوارها الوظيفية وتقدير حدودها المعرفية داخل منظومة البحث … “التاريخانية” عند العروي ليست مذهبا فلسفيّا تأمّليّا، بل هي موقفٌ أخلاقي يرى التاريخ مخبرا للأخلاق والسياسة. وبما أن التاريخ هو مجموع الوقائع الإنسانيّة التي حدثت بالفعل، فإن العقل “التاريخاني” بالمُحصِّلة لا يُعنى بالحقيقة النظرية بقدر ما يُعنى بالسّلوك، والتاريخ بالنسبة إليه لا يعدو أن يكون معرفةً عمليّة أوّلا وأخيرا.
يكفي الآن أن نستند على هذا الرأي الذي أثبت – على عكس ما هو شائع – ارتباطَ التاريخ بالعقل المعرفي منطقاً وواقعاً، كي نتساءل بذهول عن سبب تغييب التاريخ كمنطلق للتفكير المتسائل، وكمنهجية يمكن بل ينبغي أن نعتمد عليها في سعينا نحو أوجه الحقيقة الواقعية.. وفي محاولاتنا الرامية إلى تفكيك الظواهر وإثراء علاقتنا الجمالية بالفن والإبداع، وبالموروث الثقافي الذي ننتمي إليه بواقعية شديدة.
إن التاريخ ليس مرادفا للماضي ولا يحمل أيّ نوع من الإيحاء بالحنين إلى الماضي أو إلى الماضويّة كنزعة أو كأسلوب، بل هو مادة واقعية متواترة ومستمرة، مادة دائمة الحركة والتراكم، نستطيع أن نخلص من خلال تعاطينا الواعي معها إلى ملاحظات تجعلنا نفهم بواقعية حيادية عدداً من الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تجايل حياتنا في الحاضر المعيش، وتساعدنا كذلك على دحض ما يتسرّب من الوهم أو “الموهوم” – بتعبير عبدالله العروي – إلى داخل الإطار المعرفي التاريخي المتوارث. لذا، فالدعوة إلى إعادة الاعتبار للتاريخ كحقل علمي ليس معناه الركون للاستئناس بالأحداث الماضية، بل إن الأمر يعكس حاجة متنامية الإلحاح لتفكيك عناصر العلاقة السببية بين التجربة والقدرة على الاستشراف.
عبدالله العروي يرى أن “التاريخانية” هي مدرسة الواقعية
أما الأحداث التاريخية الكبرى في السياسة وقضايا الحضارة والصراع الثقافي فهي لا تكرّر نفسها حتما، لكن السياقات تكون في الغالب متشابهة أو مترابطة على الأقل. من هنا تنبع أهمية الحديث عن الواقع والواقعية في تعاطينا مع العالم المعاصر ومع الحداثة باعتبارنا جزءا منها، فحتى وإن لم نساهم نحن في صنع تاريخها القريب، فإننا على الأرجح مطالبون بقراءة وجودنا الآني داخل هذا التاريخ الذي تُكتب صفحاته اليوم. يذكّرنا هذا المسار بمعطى “الواقعية” عند ابن خلدون الذي ربط فيها بين قدرة الفكر على الخلْقِ والإنتاج وبين الآفاق المتاحة من الأفكار والمناهج القَبْلية، لذا فنحن مطالبون كذلك باستثمار هذا “المتاح” الكوني واقتباس نصيبنا من نماذجه الثقافية الموجودة حتى لا نعيش مغيبين عن معطيات الراهن وأدواته، وهو عمل يقتضي التصالح مع المناهج الحديثة في قراءة التاريخ، ويشترك في حمل أعباء هذا الواجب المعرفي كل من الباحث والسياسي على حد السواء… قبل فترة، صرّح خبير علم الاجتماع الفرنسي جاك أتالي قائلا “لا أحد يستطيع قيادة بلدٍ بنجاعة دون أن يكون ملمّاً تماما بالتاريخ، عليه أن يشعر حقيقةً بالتراجيديا وبالطموح إلى التجاوز”.
سيقودنا هذا النقاش حول التجاوز إلى سؤال الحداثة في التاريخ نفسه، هل ينفصل التاريخ عن الحداثة؟ وهل يناقض رهاناتها؟ هل تختصم معطيات التاريخ مع آفاق الحداثة؟ وهل يصحّ الحديث عن الحداثة بمعنى التجاوز دون أن نكون على مسافة واحدة مع الأنساق السابقة؟ إذا كان الجواب هو لا، فإننا إذن في حاجة إلى آلة التاريخ العلمي كي لا تتجاوزنا المعطيات المتسارعة، وكي ننجح في خلق قراءة متأنية وعالِمة للأحداث، بما يستجيب لقواعد الحقيقة ويمنحنا صورة حيادية للواقع الذي نتجدد فيه عبر تحديث قدراتنا التحليلية والإدراكية… فالحداثة هي أولا وقبل كل شيء “نظام ومدرسة لتحديث العقول والذّهنيات” يقول عبدالله العروي.
لم يعد سرا أن الأفكار تتأثر ببيئة أصحابها، كما أن هنالك فارقا مريبا بين إيقاع حركة الأفكار وبين الأحداث التي يولّدها الواقع على نحو متسارع.. وكنتيجة لهذين العاملين، تظل مسألة الحداثة فضفاضة في الطرح، محاصرةً بشيء من التهويم والعمومية… كما أن تمسك الكتابات الفكرية بمعيار التراكم النظري قد أحدث نوعا من التثاقل في قراءة معطيات الواقع المتغير باستمرار، هكذا تعقّدت بنيةُ الحداثة نظرياً وتعطّلت كمشروع.
في خضم هذا السياق الموضوعي الذي يتشكل من عنصرين اثنين، أولهما الاختلاف البنيوي في طرق تناول الحداثة كموضوع، وعنصر ثان يتمثل في فارق الإيقاع بين الفكرة والواقع، يُطرح سؤال تأسيسي آخر عن ماهية الحداثة نفسها في سياق عربي خاص، من حيث الطبيعة والرهانات.
ما من شك أن سؤال الحداثة في البلدان العربية يُعَدُّ من كلاسيكيات البحث داخل الفكر العربي المعاصر، غير أن طرق معالجته قد اختلفت كثيرا بين مرحلة الأيديولوجيا وما بعدها، فمن همّوا باكتشاف الزوايا المتداخلة في الموضوع وجدوا أنفسهم أمام تباين كبير في طبيعة الإشكالات المطروحة ومناهج البحث، وفي الأسس النظرية والأيديولوجية التي انطلقت منها رؤى الباحثين.. هل يمكننا الحديث عن حداثة واحدة؟ بمعنى تمثّلِ الحداثة العربية في كلّياتها داخل كتلة نظرية واحدة يؤكدها الواقع ونلمس تجلياتها نحن دون اشتباك ودون تناقض، أم أننا على العكس إزاء حداثات عديدة بينها حدود وظيفية فاصلة تتعدد بتعدد المجالات ويعبّر مجموعها عن حالة من الحداثة العامة التي يمكن أن نسِمَ بها مسار أمةٍ ما كجزء من العالم المتحضر أو من العالم الحر بتعبير النُّخب الديموقراطية في الغرب؟
وفي ذات السياق يُطرَح سؤال آخر لا يقل أهمية: هل تعني الحداثة انتماءً لفِعل الحضارة أم لفكرتها؟ فالمدنيّة الحضارية الحديثة التي يبتغيها العالم إمّا أن تكون قناعة جماعية تؤسسها الفكرة من حيث المبدأ، أو أن تظل مرهونة بالشرط الإنتاجي الذي يخلق المُنْجَز على أرض الواقع.
محمد سبيلا يرى أن الحداثة واحدة في تعدُّدها
هذه الأسئلة ليست مطروحة للبحث عن أجوبة محددة، بل هي أبواب للتفكير المشترك الذي يعيدنا إلى قراءة بعض المتون الفكرية الملتهبة، تلك التي رحل أصحابها وبقيت علاقتنا بها ملتبسة، فنحن بين خيار التعاطي مع النصوص التحليلية بصفة المتعلم الناقد أو الاكتفاء بالقراءة التي تستعرض جوانب الفكرة داخل النص دون أن تكون ردّات الفعل مؤثرة.. سيؤدي هذا المسار بالضرورة إلى عدم الحسم في القضايا، وإلى توليد المزيد من الأسئلة الفرعية، ولعل هذا هو جوهر المعضلة النظرية التي يعيشها النقاش البحثي حول مسألة الحداثة براهنيّة طرحها وتناولها، فنحن لم نحسم بعد في تأطير الحداثة مفهوماً وتعاطياً، فضلا عن ذلك الحسم الضروري في كيفية تنزيل مبادئها الكونية، والتحلي بقلقها الفكري الجاد، والاحتكام الطوعي لعقلها المنفتح والمتسائل حول الذات والمجتمع والعالم.
الحداثة حداثاتٌ يقول البعض مجتهدا في التصنيف، حداثاتٌ بينها حدود مجالية فاصلة، تقنية وسياسية وفنية واجتماعية وفكرية… ويرى محمد سبيلا أن الحداثة واحدة في تعدُّدها، إنها وحدة معنوية ضرورية مهما تعددت “المدارات”، لكن هذا الطرح يحيلنا أيضا إلى معالجة مسألة الحداثة بتاريخانية الواقع التي تحتكم لخلاصات موضوعيةٍ غير زمنية، فربط الحداثة بالعقلانية يذهب بنا إلى ما قبل الحضارة اليونانية، أي إلى أول فعل ذهني مناهض للخرافة وسرديات المصادفة، أما المبادئ الفلسفية التي أنارت الفكر في العالم القديم فقد انطلقت من عمق فلسفي متواتر زمنيا وإنسانيا يصعب تأريخه على نحو دقيق، لكن السياق المعاصر يشهد لفرنسا بريادة التأطير النظري الذي تُوِّج بعد ذلك بحداثة تقنية امتدت من بريطانيا إلى أوروبا ثم إلى الغرب فالعالم المصنّع ككل، إنه توسع لفعل الحداثة من النظرية إلى الجانب العملي الذي قطَف ثماره الاقتصاد فيما بعد، ويمكن أن نشير أيضا إلى أن العالَم الأقل تصنيعا هو الآخر مشارك في هذا التحديث العملي، فسلاسل القيمة في الاقتصاد المعاصر قد ذوبت الحدود تماما بين المالك الرئيسي للتقنية والمساهم في نشاطها الإنتاجي والاستهلاكي. نفس الأمر يمكن أن يُقال عن الجانب الفكري للحداثة، فالقيم الحديثة لا يمكن احتكارها اليوم، ولا أحد له الحق أن يتحدث باسمها حصرا.
وبالعودة إلى الحالة العربية، قد لا يكون هذا التأطير الذي يخلط بين الكرونولوجيا والتقسيم الموضوعي كافيا للتعرف على ملامح تلك الحداثة التي نتخيلها عربياً، نعم، فالهدف ليس التأطير التاريخي للظاهرة وليست الغاية تأسيسا نظريا لها كمفهوم، وحتى النقاش المُثار حولها قد لا يكون ذا جدوى إنْ هو استغرق في تفاصيل الموضوع وترك سؤال الراهنيّة والتنزيل الواقعي. لعل المذهب الذي سار فيه محمد عابد الجابري ومعه ثلة من قُرّاء التراث قد كرّس منهجية معروفة لاستشراف بوادر الحداثة العربية، إذ جعلها متصلة بفعل المراجعة التراثية الضرورية قصد التعايش مع معطيات الواقع الجديد، وهو شرط قد لا يكون مُلزِماً اليوم، لاسيما أننا في صدد الحديث عن جيل آخر من التحولات، تقنية وجيوسياسية ومعرفية، جميعها ترسم ملامح الظاهرة الاجتماعية للاستهلاك أو ما تُعرف بالثقافة الاستهلاكية، هذه الثقافة التي جعلت الحداثة نفسها في مأزق البحث عن التوازن بين القواعد الإنسانية العقلية من جهة وبين مخرجات النيوليبرالية من جهة ثانية، تلك المخرجات التي أحدثت نوعا من الانفلات الهوياتي، وأفرزت هي الأخرى قيماً ثقافية طارئة.. استهلاكيةً بالأساس، لذا فإن الاستغراق طويلا في الاشتباك مع التراث يكرس نوعا من التقليدانية غير المحبذة في تمثل الظاهرة الحداثية على صعيد بنيوي متعدد الأبعاد.
للحداثة مظهران أساسيَّان تتبلور من خلالهما ديناميَّاتها المختلفة: الصورة السياسيَّة والصورة الفكريَّة كما يقول المفكر المغربي محمد سبيلا.
صحيح أن الثوابت التراثية مازالت تتحكّم في السلوك الاجتماعي العربي، لكن البحث عن طرق الوصول إلى حداثة واحدة هو المطلوب الآن، ويعني ذلك أن نتوقف فوراً عن الانتظارية وأن ننخرط في مسلسل التحديث، على مستويات متزامنة ومتوازية من حيث الدور والأهمية، فتحديث المؤسسات يجعلنا ننخرط في تحديث النظم الاجتماعية وبناء عقل جمعي منفتح ومعزز للسلوك المدني، كما أن هذه الخطوة هي التي من شأنها أن تمهّد لانتقال مؤسساتي عميق يدعم مفاهيم العدالة والحرية والإنتاج والتنمية، إنها ليست مجرد شعارات تتكرر في الخطاب الرسمي أو في دعايات النخب، بل هي قيم جوهرية تُعنى بها قضية الحداثة. ومن المؤكد أن الحداثة لا تتحقق دون انشغال جاد بالقيم الكونية الحية ودون تماهٍ مع مشروعها الحضاري، كما أنها لا تتحقق بالتنظير فقط، وإنْ وُجدت مجموعات فكرية ضاغطة، بل تتبلور عبر التأثير المؤسساتي الملموس. نتذكر في هذا الإطار ما دأب الشاعر أدونيس على التنويه إليه، من حيث ضرورة التأثير في المؤسسات، لأن التنظير لمسألة الحداثة بعيدا عن الفعل المؤسساتي لم يعد مجديا.
يتحقق فعل الحداثة عمليا في المؤسسات وعبرها… الأمر يبدأ أولا من تحديث مؤسسة المدرسة ببناء نظام تعليمي منفتح ومتنور يدعم الحس النقدي ويقف على مسافة واحدة من الانتماءات الثقافية، ويستحضر قيم العصر مكرِّساً فعل الإنتاج كمعيار وحيد للتفوق، ثم ينسحب الأمر تِباعا على كافة المؤسسات، ووفق هذا المسار، يمكن أن نتحدث عن الحداثة الناجزة كمشروع. أما الورش الفكرية المفتوحة، فيُنتظر منها أن تحدث قطيعةً مع مبدأ التواتر النظري للأفكار والمرجعيات التي استبدلت سلفية التراث القديم بسلفية الحداثة، بمعنى أن تتحرر الكتابات من عقدة التواتُر، وأن تُعاصر الساعة التي نعيشها الآن مراعيةً تغير العالم وقواعده وتغير الأجيال، فحداثة الستينات والسبعينات ليست هي حداثة اليوم، والتحولات التي شهدها العالم منذ قرنين ربما شهد مثلها خلال عقدين فقط من القرن الجديد، لذا فالانخراط في التنظير للحداثة بمعناها الحضاري يقتضي الانحياز دائما للراهن الجوهري، وتجاوز فلسفة التركيب التي لا تُعنى بالفكرة قدر انشغالها بالتأطير.. وبدل الاستغراق أكثر في تصور الحداثة كتيار أو كأيديولوجيا، يمكن النظر إليها ببساطة: كمشروع!
نقلاً عن العرب اللندنية
نوفمبر 21, 2024
نوفمبر 19, 2024
نوفمبر 17, 2024
نوفمبر 11, 2024