الجمعة , 22 نوفمبر 2024
القمندان نيوز / كاتب ومترجم جزائري ترجمة: مدني قصري
ما أكثر الانتفاضات التي هزّت العالم العربي، منذ نهاية عام 2010، مصحوبة بمناقشات حول مكانة الدين في السياسة، على الرغم من القمع أبدى عدد من المرتابين شكوكهم علانية، بل وحتى إلحادهم، خاصة على الشبكات الاجتماعية. إنّها ظاهرة حقيقية، لكن يصعب قياس مداها.
على مدى فصل الصيف الحالي يستكشف موقع “Orient XXI” أرشيفاته، ويعرض علينا كلّ أسبوع إعادة اكتشاف المقالات المنشورة في السنوات الأخيرة، والتي ما تزال محتفظة بكامل أهميتها.
بالنسبة لمعظم الأوروبيين، وكذلك بالنسبة لعدد من سكان شمال أفريقيا، تبدو فكرة أنّ العرب قد لا يكونون مسلمين فكرة خيالية؛ فإن كانوا غالباً ما يجهلون وجود الأقليات المسيحية، في مصر وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين، فقد يكون من الأصعب عليهم أن يتخيلوا وجود عشرات الآلاف في العالم العربي، بل وحتى مئات الآلاف من المتشككين المرتابين. فكما يشير أحمد بن شمسي، المتحدث الآن باسم “هيومن رايتس ووتش” (مراقبة حقوق الإنسان):
فمثلما تقلل الأنظمة العربية من أهمية ظاهرة الإلحاد في بلدانها فإنّ الغرب غير قادر على تصوّر وجود عربي ملحد، في وسائل الإعلام الغربية ليس السؤال المطروح إن كان العرب متديّنين حقاً بقدر ما هو إن كان تديّنهم يؤثر على الغرب.
إلحاد ضدّ الطبيعة
ومن المفارقات أنّه في حين أنّ القضايا المتعلقة بالدين تُبهر الجمهور العربي العريض فإنّه لا توجد سوى مقالات محدودة مخصصة للإلحاد نفسه. بالنسبة لطارق ب، فإنّ الملحدين في الحقيقة يُصنَّقون في كثير من الأحيان، وأحياناً عن قصد وسوء نية، ضمن العلمانيين.
الإسلامويون هم الذين يخلطون بين العلمانية والإلحاد لإضعاف الأصوات الداعية إلى الفصل الصارم بين الدين والدولة، لكن يظل هذا الارتباك خلف الكواليس، حيث تحرص الأنظمة غير الديمقراطية على الاحتفاظ به للأغراض نفسها: تشويه سمعة الحركات العلمانية التي تدعو إلى إضفاء الطابع الديمقراطي العميق على الحياة السياسية، لكن أيضاً من أجل حرية التعبير والضمير.
في المغرب، يتابع المحامي طارق ب، هناك “ارتباك آخر مرتبط بالردة، فالمغاربة، وهذا ينطبق أيضاً على بقية العالم العربي الإسلامي، يُعتبرون جميعاً مسلمين بحكم الفطرة والولادة. نقول بالعربية “مسلم بالفطرة”؛ لذلك فإنّ تخلي المرء عن دينه أو تغييره أمر غير مقبول لعامة الناس ولقادة المسلمين”.
يمكن للمرء أيضاً أن يتساءل عن مدى ملاءمة الكلمات المستخدمة في اللغة العربية لكلمة “ملحد”. المصطلح الأكثر استخداماً هو “ملحد: زنديق، مرتد- من فعل أَلْحَدَ، أي انحرف عن الاتجاه الصحيح، وتخلى عن إيمانه”، لكنّه لا يعبّر عن الإلحاد حقاً. يفضّل دومينيك أفون التحدث عن “المفكر الحر”. مهما كان الأمر فإنّ هذا المصطلح، مثل مصطلح المنافق أو المرتد أو الكافر (مُشرك أو كافر)، يحمل الإيحاء نفسه في نظر معظم رجال الدين المسلمين، أو مجتمع المؤمنين.
البيانات الإحصائية نادرة، وربما يجب أخذها بحذر، خاصة عندما ذكرت منظمة مصرية مثل دار الإفتاء، في كانون الأول (ديسمبر) 2014؛ أنّ هناك “866 ملحداً” في البلاد. بشكل عام تشير الأعمال الأكثر جدية، بدءاً من دراسة الباحث والصحفي المعرّب بريان ويتاكر Brian Whitaker، وعنوانها “الإلحاد وحرية المعتقد في الشرق الأوسط CreateSpace Independent Publishing Platform، أكتوبر 2014) إلى مسح دولي لـ WIN / Gallup، يعود إلى عام 2012، حيث تم إجراء مقابلات مع أكثر من 50000 شخص في 57 دولة.
مفكرون متحررون في التاريخ
إذا رجعنا إلى كتاب سارة سترومسا، الأستاذة في الجامعة العبرية في القدس “المفكرون الأحرار في إسلام العصور الوسطى Freethinkers of Medieval Islam. Ibn Al-R Wand, AB Bakr Al-R Z, and Their Impact on Islamic Thought (Islamic Philosophy, Theology, and Science) (Brill, 1999) فإنه يكاد يكون من المستحيل في القرون الأولى للإسلام أن تجد مفكراً واضحاً أظهر إلحاده، ومن ناحية أخرى لم يتردّد أوصياء الأرثوذكسية في وصف عدد من المرتدين بـ “الملحدين” و”الزنادقة”، ومن أشهر هؤلاء المتمردين اثنان من الفرس؛ ابن الرواندي، الذي عاش في بغداد، وأبو بكر الرازي.
أبو العلاء المعري في القرن الحادي عشر، وهو من حلب، شخصية أخرى من الفكر الحر الذي وصف دون أن يرتدي قفازات المجتمع “الفاسد والمنحط” في عصره، الذي اعتمد فيه الطغاة في الحكم على “قضاة فاسدين وعديمي الضمير”، وفقاً له انقسم المجتمع بعد ذلك بين “الأوغاد الأذكياء والأغبياء المتدينين”.
يمكننا أيضاً الحديث عن عمر الخيام، المعاصر للمعري، لكن التشكك الديني لم يظهر في العالم الإسلامي إلا في نهاية القرن التاسع عشر. بالنسبة لسامولي شيلكي، عالم الأنثروبولوجيا والباحث الألماني في “Zentrum Moderner Orient” في برلين؛ فإنّه إذا كان المفكرون الأوائل قد ظهروا في عصر توسّع الإسلام فقد ظهرت الموجة الثانية من المفكرين الأحرار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
لقد دفعت الإمبريالية الغربية بالفعل بعض المثقفين إلى التشكيك في تقاليد وتنظيم المجتمعات التي يعيشون فيها، والتي أظهرت نفسها عاجزة عن مقاومة المحتلين. وهكذا نرى ظهور تيارات قومية مناهضة للإمبراطورية العثمانية، بين المسلمين والمسيحيين على السواء ومناهضة لرجال الكهنوت.
لماذا أنا ملحد؟
في العالم العربي، أثار أشهرُ الملحدين، المصري إسماعيل أدهم، الكاتب والناقد الأدبي من الإسكندرية، غضبَ الأزهر في أوائل الثلاثينيات.
ففي وعام 1936 نشر كتاب “لماذا أنا ملحد”، مما أثار جدلاً عنيفاً.
لقد كتب: “هجرتُ الأديانَ وكل معتقداتي، ولم أضع إيماني إلا في العلم والمنطق العلمي. وكم كانت دهشتي عظيمة، حيث جعلني هذا أكثر سعادة مما كنت عليه عندما كنت أكافح حتى لا أفقد إيماني”.
كان السوري عبد الرحمن الكواكبي، من أوائل المفكرين العرب الذين دافعوا عن الفصل بين الدولة والدين، حيث اتهم رجال الدين التقليديين بـ “تعزيز سلطتهم على المؤمنين الساذجين، باستخدام الإسلام كأداة لزرع الشقاق في المجتمع وإشاعة روح الاستسلام والاستعباد”.
وهكذا فقد انصبت انتقادات المتشككين على استغلال الإسلام كأداة لتحقيق مآرب أكثر من انشغالها بفكرة الإلحاد. وتعززت هذه الانتقادات مع تطور الأفكار الماركسية بعد الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك فقد حرص الماركسيون العرب، وخاصة في جنوب اليمن، على عدم الترويج للإلحاد علناً. على العكس من ذلك يشير شيلكي إلى أنهم سعوا لمواجهة الدعاية المعادية للشيوعية من خلال التأكيد على أنّ الإسلام الذي يتم فهمه بشكل صحيح متفق تماماً مع مبادئ الاشتراكية.
الشكّ والنقد
قد يفسّر فشلُ القوميين العرب وظهور ما يسمى بالإسلام الراديكالي، إلى جانب صعود التعصب، السبب الذي يجعل المزيد من العرب يتخلون عن دينهم. بالطبع، الغالبية العظمى من السكان المسلمين مرعوبون من الجرائم والمجازر التي يرتكبها تنظيم داعش أو القاعدة، لكنّ هذا لا يدفعهم إلى التخلي عن دينهم. في الواقع، كما يشير بريان ويتاكر، نادراً ما يكون رفض الإرهاب، هو السبب الرئيس لإلحاد بعض العرب، بالنسبة لكثيرين منهم كانت هذه الخيارات “تتويجاً لتفكير شخصي طويل”. ويضيف الصحفي الباحث والمعرّب بريان ويتاكر “Brian Whitaker”؛ أنّ طريق المساءلة “يبدأ بالشكوك الشخصية”.
من ناحيته يستنكر محمد أركون أيضاً أنّ الإسلام لا يملك أيّ نوع من جدلية العلمانية/ الدين. نحن هنا على كوكب آخر غير قادر على سماع المفاهيم التي لا يعرفها، وأكثر من ذلك غير قادر على جعلها تعمل.
لقد تأثر الجزائريون، على سبيل المثال، بفكرة العلمانية لمدة أكثر من قرن من الزمن: كانت هناك الجمهورية الواحدة غير القابلة للتجزئة، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن، ..إلخ، لكنّ الجزائريين يشهدون إنكارَهم الصريح الواضح منذ الاستقلال”.
يُعبّر محمد أركون عن انزعاج العديد من العرب، خاصة الشباب الذين لا يجدون إجابات مُرضية عن الأسئلة التي يطرحونها على أنفسهم، وقد سمح تطوير القنوات التلفزيونية الفضائية، وإنشاء قنوات خاصة، عام 2000، ثم الشبكات الاجتماعية على مدى السنوات العشر الماضية، لكثيرين من أولئك الذين يعيشون في شك بالخروج من بعض العزلة.
نظراً للضغوط والمخاطر التي ينطوي عليها الأمر، فقد تحوّل اللاإدريون والمتشككون في العالم العربي إلى الشبكات الاجتماعية حيث يتم ضمان إخفاء الهُوية إلى حدّ ما.
مسألة تخصّ الرجال؟
من الواضح أنّ النساء لا يَغِبن عن هذا الجدل الحساس للغاية، كما يلاحظ بريان ويتاكر؛ ففي هذه المجتمعات الأبوية، حيث لا تحتلّ النساء سوى مكان محدود في الفضاء الديني، قد يعتقد البعض أنهنّ يملكن من الأسباب أكثر ما يملكه الرجال للتخلي عن دينهنّ، لكنّ النظام الأبوي يكاد يمنعهن دائماً من أخذ زمام المبادرة. في المجتمعات العربية التقليدية يجب أن تكون المرأة “فاضلة” و”خاضعة” حتى تتمكن من الزواج، حتى إنّ البعض يذهب إلى حدّ الاعتقاد بأنّ الإلحاد في العالم العربي “شأنٌ رجالي” خالص! وهذا في الواقع غير صحيح.
أثر مقولة طه حسين
في المغرب، عام 2009، أطلق بضع عشرات من الأشخاص الحركة البديلة من أجل الحريات الفردية (MALI)، تشجب هذه المجموعة من الناشطين الشباب القوانين المرتبطة بقانون العقوبات المغربي وتدافع عن حرية الضمير والعبادة والتوجه الجنسي، وبشكل أعم عن إقامة دولة علمانية. تبنت هذه الحركة مقولة مشهورة للأديب الراحل طه حسين: “المرأة المتحررة فقط هي التي ستنشِئ أجيالًا من الرجال الأحرار”، أكثر أعضائها شهرة: زينب الرزاوي، الصحفية في شارلي إيبدو الفرنسية، وابتسام الأشقر.
نوفمبر 11, 2024
نوفمبر 8, 2024
نوفمبر 8, 2024
نوفمبر 8, 2024