سوريا، هذا البلد الذي كان يوماً قلب الحضارة وملتقى الثقافات، أضحى مسرحاً لأبشع الجرائم والانتهاكات الإنسانية في العصر الحديث، من حُكم حافظ الأسد الأب وصولاً إلى سنوات بشار الأسد الدامية، واجه الشعب السوري أربعة عقود من القمع والتنكيل، واليوم، مع الحديث عن لجوء الأسد إلى روسيا وبدء انكشاف ملفات الجرائم والمعتقلات، يطرح السؤال الأكبر: إلى أين تتجه سوريا بعد طي حقبة الأسد؟
بدأت الحقبة السوداء في سوريا عام 1970 عندما استولى حافظ الأسد على السلطة، منذ ذلك الحين، تحولت البلاد إلى دولة بوليسية تخضع لهيمنة المخابرات والأجهزة الأمنية، حكم الأسد الأب قبضته بالحديد والنار، مستخدماً العنف والإقصاء لتثبيت أركان حكمه، جاء الأبن بشار الأسد في عام 2000 ليكمل مسيرة القمع، لكنه واجه ثورة شعبية في 2011 كشفت هشاشة النظام.
ملف المعتقلات هو الأكثر ظلاماً في تاريخ سوريا الحديث. سجن صيدنايا وحده، المعروف بـ”المسلخ البشري”، كان شاهداً على جرائم تعذيب وإعدامات ممنهجة لا تخطر على بال، تسربت شهادات معتقلين وكتب وثّقت ممارسات لا يمكن وصفها إلا بأنها إبادة للإنسانية، لكن هذه الجرائم لم تكن حدثاً عابراً، بل جزءاً من استراتيجية النظام لفرض السيطرة عبر الإرهاب.
جاء الإعلان عن لجوء بشار الأسد إلى روسيا بحجة إنسانية ليمثل منعطفاً جديداً، روسيا، التي كانت الحليف الأبرز للنظام السوري، اختارت أن تؤمن مخرجاً آمناً للأسد بعد أن فقد سيطرته السياسية والشعبية.
هذا اللجوء يُنظر إليه كخطوة أولى لنهاية حكم آل الأسد، لكنه أيضاً يطرح تساؤلات حول المستقبل، هل سيكون هذا اللجوء بداية لمرحلة انتقالية نحو سوريا جديدة، أم محاولة لإعادة إنتاج نظام استبدادي جديد تحت رعاية أطراف خارجية؟
منذ اندلاع الثورة السورية، اضطر أكثر من 13 مليون سوري إلى ترك منازلهم، ليصبحوا لاجئين في دول الجوار وأوروبا وبقية العالم، اليوم، مع رحيل الأسد، يبرز أمل كبير في عودة هؤلاء إلى وطنهم، لكن هذا الأمل مشروط بإعادة بناء الدولة على أسس تضمن الأمن والكرامة لكل مواطن، إن عودة اللاجئين لا تعني فقط استرجاع بيوتهم، بل تتطلب تأسيس دولة تحترم حقوقهم، وتحاسب كل من تسبب في مأساتهم.
باعلان حكومة تصريف اعمال مؤقتة او حكومة انتقالية قد لا تكون انتهاء حقبة الأسد، لا يعني بالضرورة نهاية المعاناة، أمام سوريا تحديات ضخمة تبدأ بإعادة بناء المؤسسات المدمرة، وتمر بتحقيق المصالحة الوطنية، وصولاً إلى صياغة دستور جديد، وعقد اجتماعي يضمن العدالة والديمقراطية.
إن سوريا الجديدة اليوم، تحتاج إلى نظام سياسي يضمن تمثيلاً حقيقياً لكل مكونات الشعب، ويضع حداً للطائفية والانقسامات التي مزقت البلاد، كما تحتاج إلى خطة اقتصادية تعيد إعمار البنية التحتية، وتوفر فرص العمل لملايين السوريين الذين فقدوا مصادر رزقهم.
لا يمكن طي صفحة حكم الأسد دون محاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتُكبت، فالعدالة الانتقالية ستكون مفتاحاً أساسياً لتحقيق المصالحة الوطنية، محاكمات شفافة وعلنية، وتعويضات للضحايا، وكشف مصير المفقودين هي خطوات لا بد منها لتضميد جراح الشعب السوري.
فرغم الدمار الذي لحق بسوريا، يبقى الأمل قائماً في بناء وطن جديد يسوده السلام والحرية، سوريا التي يتطلع إليها شعبها هي سوريا بلا طغاة، بلا معتقلات، وبلا نزاعات، وطن يضمن الكرامة لكل مواطن، ويعيد للسوريين مكانتهم بين الأمم.
إن سوريا الجديدة ليست مجرد حلم، بل هدف يمكن تحقيقه بالإرادة الجماعية والعمل الجاد، فالشعب السوري الذي صمد في وجه الطغيان والظلم يستحق مستقبلاً أفضل، ومستقبلاً يعكس تطلعاته نحو الحرية والعدالة.