في أجواء رمضان الإيمانية، تتنزَّل النفحات الربانية، فتنشر بلسَماً شافياً يُرَقّقُ القلوب، وَيُصَفّي النفوس، ويَحْبِسُهَا عن الشهوات، ويَفْطِمُهَا عن المألوفات، فيتغير كل شيء نحو الأفضل، وتكون الرُّوحُ قابلة للتغيير والتغير، والتأْثير والتأَثُّر، وتقوية الإِرادة على طاعة الله، وإقبال الأَفئدة عليه راجية أن تنال عفوه ورضاه.
وشهرٌ كهذا، الذي تفتح فيه أبواب الجِنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتصفد فيه الشياطين، وتضاعف فيه الحسنات، لا بد أن تُسْتَغَلَّ أوقاتُه، وتُسْتَثْمَر أَنفاسُه، ويُعَمَّر نهارُه بالجد والمثابرة في العمل الدنيوي والأُخروي.
والمسلم لا بُدَّ من أن يكون له هدف واضح في رمضان، يجعله دائماً نُصب عينيه. ولا شك في أن أعظم وأسمى هدف أن يُعْتِقَ اللهُ رَقَبَتَهُ من النار. وإن أعظم ما يعمر به المسلم نهار رمضان: عبادة الصيام، فهو راحة للنفس؛ وإذا صام الصائم ذَلَّتْ نفسه، وانكسر قلبه، وخَفَتْ مطامعه، وذهبت شهواته؛ لذلك تكون دعوته مستجابة لقُرْبِه من الله عز وجل.
وفي الصيام سِرٌّ عظيم، وهو الامتثال، عبوديةً لله عز وجل، والإذعان لأَمره، والتسليم لشرعه، وترك شهوة الطعام والشراب والجماع لمرضاته، وفيه انتصار للمسلم على هواه، فهو نصف الصبر، ومن لم يستطع الصيام بلا عذر فلن يقهر نفسه ولن يغلب هواه.
هكذا يبدأ الإمساكُ مع أول جملة ينطقها المؤذن، ولا يمكن للمسلم أن يتأخر في الأكل والشرب بعد أن يسمع الأذان الثاني، وكذلك ينتهي الإمساك مع أول تكبيرة ينطق بها المؤذن لصلاة المغرب، ويلتزم الصائمون جميعاً، بل يتسابقون لينالوا خيرية التعجيل في إنهاء الصيام. ورمضان فرصة مُمَيَّزة لوصل ما انقطع، وتقوية الأواصر الأُسرية؛ فصلة الرحم من القيم الدينية والإنسانية التي يجب الحفاظ عليها.
فقد حَثَّ الدين على ضرورة صلة الأرحام، فقال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، فصلة الأَرحام لها فوائد عديدة، ومن أبرزها: التلاحم الأُسري، والشعور بالراحة النفسية، وإطالة العمر، ما ينعكس إيجاباً في خلق أجواء متماسكة.
ونهار رمضان من أفضل الأوقات لتعميق التواصل الاجتماعي، ومشاركة الناس في مناسباتهم، وعلينا أن نحيي هذه القيمة الدينية بعدما تراجعَتْ عما كانت عليه في الماضي.
ومن أهمّ ما نستثمر به نهار رمضان: خدمة المجتمع، فمجتمعنا كأي مجتمع آخر بحاجة مستمرة للعطاء من كل أفراده، فكل واحد منا من خلال مَوْقعه وتخصُّصه يستطيع أن يسهم بجزء من مسيرة التقدم والتطور. والمجتمع بحاجة إلى أُناس يعملون أكثر مما يتكلمون، ويبادرون أكثر مما ينتقدون، ويتسابقون في العطاء أكثر مما يتسابقون في الهروب من المسؤولية