من المعروف أن اتفاق الرياض الذي وقع بين الشرعية والانتقالي، لم يخرج – في أكثر بنوده – إلى حيز التنفيذ، حتى بعض تلك البنود التي قيل إنها نفذت، فإنها لم تتنفذ إلا على المستوى الشكلي، وبقي محتواها المضموني مفرغا من أي تنفيذ، وكانت سلطة الرئاسة المختطف قرارها من قبل جماعة الإخوان المسلمين المعادية للانتقالي، أحد أسباب إعاقة تنفيذ الاتفاق، وبتنحيتها في مشاورات الرياض تكون قد أزيلت إحدى العقبات الكبرى المراهنة على فشل هذا الاتفاق.
وبغض النظر عما نفذ من بنود اتفاق الرياض أو لم ينفذ، فإن الانتقالي قد نجح في كسب ذلك الاتفاق منذ لحظة التوقيع عليه، حيث انتزع منه أغلى ورقة سياسية كان بحاجة ملحة لها، وهي ورقة الاعتراف به رسميا على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.
وبكل تأكيد، شرعن له هذا الاعتراف أن ينتقل إلى مرحلة أخرى ومرتبة أعلى في التموضع السياسي، وهو ما حصل عليه بالفعل في مشاورات الرياض، حيث انتقل من مرحلة الاعتراف بوجوده، إلى مرحلة الاعتراف بسلطته، ومن دور المطالب بتنفيذ اتفاق الرياض، إلى دور الآمر بتنفيذه، أي أنه إذا كان اتفاق الرياض قد مكن الانتقالي من فرض شروطه على طاولة الحوار، فإن مشاورات الرياض ستمكن الانتقالي من فرض تلك الشروط على أرض الواقع.
وفي حقيقة الأمر، تسعى تلك المكونات السياسية التي توصلت مع الانتقالي في صياغة مخرجات مشاورات الرياض إلى إفشال الانتقالي من تحقيق أي نجاح يمكن أن يزيد من رصيده الشعبي أو السياسي أو العسكري، من هنا، يجب على الانتقالي: (إما أن ينجح في فرض ما تم الاتفاق عليه مع تلك المكونات، وإما أن يفرض واقعا مغايرا آخر)، وفي حال الخيار الأخير سنكون على موعد مع وصفة سياسية جديدة أقوى في تركيبة عناصرها من وصفتي اتفاق الرياض أو مشاوراته، كما أن نجاح الانتقالي في أي من الخيارين السابقين سيجعله الأكثر ربحا في هذه المرحلة، وأما إذا لم ينجح في أي منهما فسيصبح بكل تأكيد هو الأفدح خسارة أيضا، ولا مناص أمام الانتقالي إلا النجاح، كونه أصبح الآن يمتلك من أوراق القوة أكثر من أي وقت مضى، وأكثر من أي مكون آخر.
ما توجب الإشارة إليه هو أنه ينبغي على الجميع أن يعي أن نتائج مشاورات الرياض لم تكن لغرض تثبيت أعمدة الوحدة، بقدر ما هي هندسة سياسية محكمة لدك ما تبقى من تلك الأعمدة، عبر الترويج لمرحلة انتقالية جديدة في ظاهرها التوحد، وفي باطنها التعدد.
وعلى الجميع أن يعلم أن مسار استعادة الدولة لن يأتي دفعة واحدة مثلما يتصوره بعض الناس، وإنما عن طريق جرعات ومراحل متدرجة، بصورة أكثر عقلانية ومنطقية، لا بصورة عاطفية واندفاعية، ربما تعرض الجنوبيين لخسارة كل ما كسبوه، وقد لا يكسبون بعدها أبدا.
فاتفاق الرياض ومشاورات الرياض ما هما في حقيقة أمرهما إلا جرعتان حيويتان فاعلتان، أو مرحلتان كبيرتان في هذا المسار، على وفق تقديرات رجال السياسة.
وختاما: لدى شعب الجنوب قيادة سياسية محترمة ومحترفة، وعليه أن يلتم حولها ويساندها في حال اتخذت أي خطوة سياسية تتطلبها المرحلة أو تقتضيها المصلحة، ثم عليه أن يعي أن هذه القيادة تجري مباحثات وحوارات وتفاهمات عميقة وغير معلنة تصب لصالح الجنوب، وليس لها أن تعلن عنها، أو أن تفصح بكل شاردة وواردة، وبكل ما يدور من خلف الكواليس ومن تحت الطاولات وما يجري على الأروقة السياسية.
المطلوب فعله هو قراءة الواقع بفهم أعمق، وسندرك حينها أن شوكة الميزان السياسي قد مالت بوضوح باتجاه كفة الانتقالي، وما المكاسب السياسية التي حصدها الانتقالي في اتفاق الرياض وفي مشاورات الرياض، برعاية خليجية ومباركة دولية، إلا خير دليل على خلق الظروف الموضوعية المواتية لتمكين الجنوبيين من استعادة دولتهم.